1. الليل والذاكرة – أبو قيس
2. الطريق الموحش – أسعد
3. الجرح الطفولي – مروان
4. على أبواب الصحراء
5. ظهور أبو الخيزران
في وسط الطريق، ظهرت شاحنة مياه ضخمة.
الغبار ارتفع من خلفها مثل سحابة صفراء، وصوت المحرك كأنه زئير حيوان غاضب.
توقفت الشاحنة، وخرج منها رجل نحيل، رأسه أصلع يلمع في الشمس.
كان اسمه أبو الخيزران.
عيناه ضيقتان، فيهما بريق ذكاء وخبث في الوقت نفسه.
يتكلم بسرعة، يضحك بصوت مرتفع، ثم يسكت فجأة كأنه يبتلع شيئاً في داخله.
في مشيته أثر تعب قديم، وفي صوته أثر رجل رأى الكثير.
اقترب من الرجال الثلاثة. نظر إليهم واحداً واحداً، وكأنه يقرأ وجوههم:
– "أنتم ذاهبون إلى الكويت، صحيح؟"
لم يجيبوا بسرعة. كانوا يخشون الخديعة.
ابتسم وقال:
– "لا تقلقوا، أنا أعرف أمثالكم. الطريق خطير… لكن معي سيكون سهلاً."
6. سرّ الرجل الناقص
لم يكن أبو الخيزران رجلاً عادياً.
في داخله حكاية قديمة، جرح لا يراه الناس.
في حرب فلسطين، فقد رجولته.
رصاصة أصابته، تركته جسداً بلا قوة، رجلاً ناقصاً.
ومنذ ذلك اليوم صار يعيش نصف حياة، يقود شاحنة مياه، يبيع نفسه للتجار، يحاول أن ينسى.
كان يحاول أن يعوض ما خسره بالثرثرة والضحك.
لكن كلما انفرد بنفسه، شعر بالفراغ ينهش صدره.
لذلك، حين رأى هؤلاء الرجال الثلاثة، أحس بشيء يشبه الرحمة… وأيضاً شيئاً يشبه الصفقة.
7. الخطة
جلس الأربعة في ظل الشاحنة.
أبو الخيزران أشعل سيجارة، نفث دخانها في الهواء، ثم قال:
– "الأمر سهل… لكن يحتاج إلى شجاعة."
شرح لهم:
عند كل نقطة تفتيش، عليهم أن يختبئوا في الخزان الفارغ للشاحنة.
الخزان مغلق بإحكام، مظلم، حديده ملتهب، لكنهم لن يمكثوا فيه سوى دقائق.
بعد أن تمر الشاحنة، يفتح لهم الباب ويخرجون.
تبادلوا النظرات.
الفكرة مرعبة، لكن لا خيار آخر.
الطريق الأخرى كلها موت محقق.
أبو الخيزران أقسم لهم أن الأمر مجرّب، وأنه عبر مرات كثيرة.
ضحك وقال:
– "لا تخافوا… ستصلون، وستشكرونني."
8. الصفقة والاتفاق
بدأ الحديث عن المال.
أبو الخيزران ليس رجلاً خيرياً.
طلب منهم مبلغاً مقابل تهريبهم.
تجادلوا طويلاً، خاصة أسعد الذي كان يتوجس منه.
لكن في النهاية، دفعوا.
أمل الكويت أغلى من النقود.
جلسوا صامتين بعدها.
كل واحد منهم غاص في داخله.
أبو قيس يتخيل ابنه وهو يركض بين أشجار الزيتون التي لم تعد موجودة.
أسعد يحسب كم صفقة سيعقد حين يصل، كم امرأة سيتزوج، كم بيت سيبني.
مروان يرى أمه تبتسم لأول مرة منذ سنين، والأخوات الصغيرات يأكلن بلا خوف.
كل واحد كان يؤمن أن هذه الرحلة ستفتح له أبواب حياة جديدة.
لم يعرفوا أن الأبواب التي تُغلق أحياناً لا تُفتح أبداً.
9. بداية الرحلة
تحركت الشاحنة.
الرمال تتطاير خلفها، والمحرك يزأر.
جلست الشخصيات الثلاثة على مقعد خشبي خلف السائق.
الطريق يمتد بلا نهاية، والسماء ملبّدة بحرارة صافية، بلا غيم.
كان أبو الخيزران يثرثر:
يحكي عن صفقات، عن رحلاته السابقة، عن الضباط الذين يعرفهم، عن طرق التهريب.
كان يحاول أن يبدد خوفهم بالكلام.
لكن في الداخل، قلوبهم تخفق.
كل واحد يشعر أن الموت قريب، مختبئ في أول نقطة تفتيش.
10. الدخول الأول إلى الخزان
ظهرت نقطة التفتيش الأولى.
ارتبك الثلاثة.
أبو الخيزران أشار إليهم بسرعة:
– "هيا… ادخلوا الآن."
فتح باب الخزان.
رائحة الحديد الساخن ملأت أنوفهم.
صعدوا واحداً تلو الآخر.
المكان ضيق، مظلم، الهواء ثقيل.
أغلق الباب بإحكام، وبقي الظلام كاملاً.
في الداخل، كانوا يسمعون أصوات خطوات الجنود في الخارج.
كل ثانية صارت ساعة.
العرق يسيل، الصدر يضيق.
لكن بعد دقائق قليلة، فُتح الباب.
خرجوا يلهثون كأنهم عادوا من قبر.
ابتسم أبو الخيزران وقال:
– "أرأيتم؟ بسيطة… لن تشعروا بشيء بعد قليل."
لكن في عيونهم لم يكن هناك طمأنينة، فقط خوف مؤجل.
11. الصحراء الثقيلة
تابعت الشاحنة طريقها.
النهار تمدد فوق الرمال كأنه جمر لا ينطفئ.
الشمس تضرب الحديد حتى صار يلمع كالمرآة.
في داخلهم، شعور غامض بأن النهاية تقترب، لكن الأمل كان يجرّهم.
أبو الخيزران يقود، عرقه يتصبب، عيناه تضيقان من الحرّ.
يحاول أن يبدو مطمئناً، لكنه في الداخل يعرف أن الخطر يكبر.
الجنود في النقاط التالية أكثر تشدداً.
الوقت الذي يقضونه في التفتيش أطول.
12. عند مشارف الكويت
ظهرت النقطة الأخيرة.
هناك، كل شيء يتحدد.
أبو الخيزران التفت إليهم وقال:
– "هذه المرة ستكون أطول قليلاً. اصبروا… دقائق فقط."
عيونهم تلاقت.
كان الخوف يقطر من وجوههم.
لكنهم صعدوا.
لم يكن لديهم خيار آخر.
دخلوا الخزان للمرة الأخيرة.
الباب أُغلق، الظلام التهمهم.
الحرارة تضاعفت، الهواء صار مثل نار.
تنفسوا بصعوبة، ثم بدأوا ينهجون.
13. الصمت في الداخل
في داخل الخزان، تحولت اللحظات إلى جحيم.
الهواء ينفد.
العرق يتصبب حتى صار مثل المطر.
كل نفس كان معركة.
أبو قيس شعر أن صدره سينفجر.
تذكر الزيتون، تذكر ابنه الصغير يركض بين الأغصان.
مد يده في الظلام، كأنه يريد أن يلمس شيئاً، أي شيء.
أسعد ضغط على أسنانه.
قال في داخله: "سأصل… سأصل مهما كان."
لكنه شعر أن رأسه يدور، وأن جسده يذوب.
مروان… الصغير بينهم.
ظل يهمس باسم أمه.
يتخيلها تنتظره عند الباب، يدها على خدها، عيناها تترقبان.
لكن الصوت في صدره كان يخفت شيئاً فشيئاً.
14. في الخارج – الانتظار الطويل
في الخارج، كان أبو الخيزران يحاور الجنود.
الوقت طال أكثر من اللازم.
ابتسم، ضحك، قدّم أوراقه.
لكن التفتيش امتد.
كل دقيقة كانت كالسيف.
في داخله، كان يسمع صرخاتهم.
كأن صمتهم يخترق الحديد.
لكنه لم يستطع أن يظهر قلقه.
ظلّ يبتسم، يضحك، يردّ على الأسئلة.
وحين سمحوا له بالعبور، عاد إلى شاحنته مسرعاً.
شعر أن قلبه يخفق بعنف، لكنه قال لنفسه: "إنها دقائق فقط… سيتحملون."
15. الفتح الأخير
قاد الشاحنة قليلاً حتى ابتعد عن العيون.
توقف.
قفز من مقعده، جرى إلى الخلف.
فتح باب الخزان بيدين مرتجفتين.
لكن…
الصمت خرج من الداخل.
لا صوت. لا حركة.
رأى وجوههم.
أبو قيس مستلقٍ وعيناه نصف مفتوحتين، كأنه يرى الزيتون في حلم بعيد.
أسعد منكمش، قبضته مشدودة كأنه يقبض على الحياة التي أفلتت منه.
مروان الصغير، ملامحه هادئة كالنائم، شفاهه ما زالت تتمتم باسم أمه.
الحرارة أنهت كل شيء.
في دقائق قليلة… انتهوا.
16. الصرخة
أبو الخيزران تجمد.
وقف مشدوهاً أمام الجثث الثلاثة.
أحس أن الأرض تدور من تحته.
ألقى بنفسه على الرمال، ثم نهض وهو يلهث.
نظر حوله، لم يكن هناك أحد.
فجأة، صرخ بصوت يملأ الصحراء:
"لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟! لماذا لم تدقوا؟!"
كانت الصرخة تمتد في الفراغ، تتردد بين الرمال والصمت.
لكن أحداً لم يرد.
فقط الصحراء، فقط الحر، فقط الجثث الثلاثة الممددة في الظلام.
17. الصحراء تبتلعهم
جلس طويلاً قربهم.
التفكير ينهش رأسه.
شعر أنه مسؤول عن موتهم.
وشعر أيضاً أن الحياة كلها لعبة خاسرة.
لم يكن يعرف ماذا يفعل.
هل يدفنهم؟ هل يتركهم؟ هل يواصل الطريق كأن شيئاً لم يكن؟
كانت الأسئلة تنهشه.
لكن الجثث بقيت صامتة.
في النهاية، أدار محرك الشاحنة.
الطريق امتد أمامه، بلا نهاية، مثل حياة بلا معنى.
وراءه، ثلاثة رجال رحلوا… ومعهم الحلم.
الخاتمة
رواية رجال في الشمس لا تنتهي بموت ثلاثة أشخاص فقط.
هي صرخة في وجه جيل كامل، في وجه شعب ضائع.
الحرمان، الخيانة، العجز، كلها اجتمعت لتقتلهم.
الخزان لم يكن مجرد حديد.
كان رمزاً للخذلان العربي، للسكوت، للصمت الذي يخنق الأرواح.
والصرخة الأخيرة لأبو الخيزران – "لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟" – صارت سؤالاً مفتوحاً للتاريخ كله:
لماذا صمتوا؟
لا تنسى أن تترك لنا تعليقاً بعد قراءتك للمقال!